نتابعَ اليومَ، واليومَ سبتُ النورِ وخاتمةُ أيَّامِ الآلام، وقفاتِ التأملِ التي بدأناها يومَ قُلنا، إنّ الانقسامَ في الأرضِ كانَ نتيجةَ خطأٍ ونتاجَ خطيئةٍ، فأظلمَ القلبُ وخمدتْ شعلة العَقْلِ وغَرِقَ العالمُ في ظلامِ الكفرِ وعتمةِ الاستئثار، وصُلِبَ مسيحُ اللهِ، وأظلمتِ الدنيا، وأصبحَ الكونُ بلا الهٍ، يعاني القلقَ والآلامَ.
وها هو أسبوعَ الآلامِ ينتهي بسبتٍ، هو سبتُ النورِ، وكأنَّ المأساةَ البشريَّةَ التي صُبِغَت بالانقسامِ، لا بدَّ من أن تنتهيَ بنورٍ، وقد أرادَهُ الله سَمَاويًا يشفي كلَّ ظلامٍ ويزيلُ كلَّ انقسامٍ.
لقد كانَ النورُ اولَ المخلوقاتِ، حين بدأ اللهُ بخلقِ الكون، وكانتِ الارضُ خربةً خاليةً، وعلى وجهِ الغمرِ ظلامٌ، فقال اللهُ : لِيَكُنْ نور، فكانَ نور؛ بدايةُ الخليقةِ العتيقةِ كانت مع النورِ، وما سبتُ النورِ الَّا بدايةُ الخلقِ الجديد، مع قيامةِ آدمَ الجديد، وقد غلب الموتَ فتجددَّ وجهُ الأرضِ. ونورُ هذا السبتِ لا ظلامَ فيه ولا بعدَهُ، لأنَّه اللهُ ذاتا، وليسَ من خلقِ اللهِ، أو مِنْ صنعِ يديه، هو اللهُ لا عدمَ قبلَهُ ولا بعدَهُ، نورٌ أزليٌّ أبديٌّ، سرمديٌّ الاشعاعِ، وهَّاجٌ، لا يشوبُهُ عيبُ ولا تُدركُهُ عتمةٌ ولا تخالطُه ظلمةً.
نورُ سبتِ النور، هو استباقٌ لذاكَ النورِ الذي ينيرُ المدينةَ المقدسةَ النازلةَ من السماءِ، وقد أنَارَها مجدُ اللهِ، لا حاجةَ لها الى شمسٍ ولا إلى قمرٍ، لأنَّ مجدَ اللهِ أنارَها، يقولُ الكتابُ، ومصباحُها الحملُ، وأبوابُها لا تُغلَقُ، لأنَّه لا يكونُ ليلٌ.
لقَد غلبتْ ظلمةُ العالمِ، نورَ الخليقةِ العتيقةِ، لأنَّهُ نورٌ من العَدَمِ آتٍ، ليفصِلَ بين ظلامٍ وظلام، امّا نورُ هذا السبتِ، بكرُ الخليقةِ الجديدةِ، فلا خوفَ من أيِّ ظلامٍ يأتي بعدَهُ أو عتمةٍ تُخالِطُه، لأنَّهُ منذُ الأزلِ هـو هكذَا والى الأبدِ باقٍ، مثلُ نورهِ كمشكاةٍ فيها مصباحٌ والمصباحُ في زجاجةٍ والزجاجةُ كأنها دريٌّ مِنْ شجرةٍ مباركةٍ، زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ، يكادُ زيتُها يضيء ولو لم تَمْسَسْهُ نارٌ، نورٌ علی نورٍ، يهدي اللهُ لنورِهِ، ليدخُلَ فيهِ الذينَ اتبعوا المسيحَ واهتدوا بنورِهِ؛ أوَلَمْ يُصلِّي المسيحُ لأبيهِ قائلاً: "يا أبتِ إنَّ الذينَ أعطيتَنِي أريدُ أن يكونُوا معي حيثُ أنا ليرَوا مجدي الذي أعطيتَني"، وها هُم اولئك الذينَ اتّبعُوه، في هذا السبتِ يرونَ شيئًا من مجدِ المسيحِ، قبلَ ان يأتِيَ يومٌ يرونَهُ كاملاً في السماءِ.
نورُ هذا السبتِ برهانٌ ساطعٌ في قلوبِ الرسُلِ والنسوةِ الذينَ وافَوا الى القبرِ، فانفتحتْ عقولُهُم على الحقِّ ولمعَتْ في ذاكِرتِهِم كلماتٌ. طالمَا سَمِعُوهَا من المسيحِ قبلَ أيّام، ولمْ يفهموا، الى أن رأوا النورَ فايقنوا أنَّ المسيحَ، هو النورُ الآتي الى العالمِ، حتى أنَّ كلَّ مَنْ يؤمن به لا يمكُثُ في الظلامِ. والظلامُ صورةُ غضبِ اللهِ على فاعِلي الأثمِ ورافضي وجودَ المسيحِ وكلامَهُ، ألم يقُلِ الربُّ في نبوءة حزقيال مهددًا فرعونَ مِصرَ "عندما أُطفِئُكَ أغطِّي السماواتِ واُلبِسُ الكواكِبَ حدادًا، واغطّي الشمسَ بغمامٍ، والقمرُ لا ينيرُ بنورِهِ، وألبسُ جميعَ نيراتِ النورِ في السماءِ حدادًا عليك، وأجعلُ الظلمةَ على أرضِكَ"، يقول الرب؛ ومَنْ لم يجعلِ اللهُ لَهُ نورًا فما لهُ مِنْ نور.
نورُ هذا السبتِ، انتصارٌ على سلطانِ الظلمةِ الذي اشتدَّ بأسُهُ، يومَ اُسلِمَ يسوعُ الى صالبيه، وانتصارٌ على اركونِ العالمِ الذي يتبَعهُ الغاوونَ، حين يأتيهم مُتلبِّسًا بلباسِ ملاكِ النورِ فيُضِلُّهم ويهلكون، لأنّهم لم يعرِفوا ان يسيرُوا، حينَ كانَ عندَهُم النّورَ فأدركَهم الظلام.
في هذا السبتِ، وقفَ الرسُلُ أمام القبرِ الفارغِ، فلمْ يروا فيه الاّ الاكفانَ، والملاكُ يقول: "لا تطلبوا الحيَّ بينَ الأمواتِ"، فانفَتَحتْ اعيُنُهم على حقيقةِ ما سمعوهُ من المسيحِ قبلَ موتِهِ، واطمأنتْ قلوبُهُم وغمرهُم الفرحُ، وهلَّلوا للربِّ وراحوا يبحثونَ عنهُ. عرفوأ أنَّ شعلةً وُجِدَت فيهم، لا يستطيعُ قبرٌ أن يحتويَها، ولا حجرٌ باردٌ ان يُخمِدَهَا، وكأنَّ الكفنَ قد بقيَ في القبرِ ليُكَفَّنَ فيه الخوفُ والقلقُ، ويُولَدَ للحياةِ معنًى جديدًا.
أيُّ فرقٍ هو، بين وقفةِ الرسلِ امام القبرِ الفارغِ، وتلكَ الوقفةِ التي وقفتها حوَّاءُ أمامَ شجرةِ الجنَّة؟.
هُنا ملاكٌ يخاطبُ الرسلَ فيزرعُ فيهم الفرحَ بلقاءِ الحياة، وهناكَ حيَّةٌ تغري بطيبِ الثّمرِ، فتُطعِمُ الموتَ وتزرعُ الحزنَ والخوفَ. هنا شوقٌ والتهابٌ لرؤيةِ الربِّ بعدَ الآلامِ والموتِ، وهناكَ خوفٌ من رؤيةِ وجهِ اللهِ، وتسترٌ بينَ الأغصانِ خجلاً من واقعٍ رموا ذواتَهُم فيه، إذْ لم يصدِّقوا كلامَ الله. هنا تطلُّعٌ الى السماءِ وقوةُ حياةٍ تدفَعُ بهمِ الى نقلِ البشارةِ الى العالمِ، فلا يهابونَ الموتَ، لعلِمِهم أنَّ الحياةَ خلفَ هذا القبرِ الفارغِ البارد. وهناكَ تطلُّعٌ إلى الذاتِ واستحياءٌ بالجسدِ العاري، فانزواءٌ وغرقٌ في الأرضِ المعلونةِ الغاضِبَةِ الرافضَةِ. هُنَا عالمٌ جديدٌ يبدأ وهناك عالمٌ يتهالكُ في الوحلِ غرقًا، وسيفُ النارِ على بابِ الجنَّة يخيفُه فيغمض عينيه لا يرى النورَ. هنا بركةٌ ونفحةُ روحٍ تخلقُ الانفتاحَ والتفاهُمَ والتآخي، وهناكَ لعنةٌ وانغلاقٌ وانقسامٌ وانعزال. هنا شعور برابِطِ الانسانيَّة يجمَعُ بين كلِّ افرادِ الخليقةِ ليلتَقي الكلُّ في عنصرةٍ هي عرسُ الفرحِ ونشيدُ اللقاءِ. وهناكَ شعورٌ بالانفصالِ والعداءِ، يُبعِدُ الواحدَ عن الآخرِ لتجمعَهُم بابلُ القديمة ومن حولِ بُرجِها يتفرقون.
امامَ القبرِ الفارغ عاشَ الرسلُ ذاكَ السلامَ الذي أعطاهُم المسيحُ إيَّاه، سلامَ القلبِ والعقلِ واللسان. ليس كما يعطي العالمُ أعطيكُم انا، قال المسيحُ، وهو يعرفُ انَّ سلامَ العالمِ قائمٌ على توازنِ الرُّعبِ، والاستعدادِ المتأهِّبِ المتحفّزِ للقتالِ، سلام العالم، وليدُ توافقٍ على عدمِ إفناءِ الواحدِ الآخر، لا وليدَ الحبِّ والتعاضُدِ من أجلِ انماءِ العالمِ، تسريعًا في تحقيقِ ملكوتِ الله. سلامُ العالمِ قائمٌ على الخطوطِ الحمرِ وقد حدّدها سيفُ التسلُّطِ متناسيًا أنّ من أخذَ بالسيفِ فبالسيفِ يؤخذ.
ليس كما يعطي العالمُ أُعطيكُم أنا، قالَ المسيحُ، لعلمه أنَّ عطايا العالَمِ، تنبعُ من منطلقاتِ المصلحةِ الآنيَّة، وحبِّ الكسبِ والمتاجرة بالناسِ كما لو كانوا سلعًا تستهلَكُ من أجلِ رفعةِ قومٍ هم على سواهُم مسلَّطون، سلامُ العالمِ قائمٌ على القهرِ، يميتُ اناسًا ليحيا آخرون، ويجوِّعُ اناساً ليشبعَ آخرون، ويُذلُّ اناسًا ليكبَرَ آخرون.
فهِمَ الرسلُ امامَ القبرِ الفارغِ، أنّ هذا القبرَ صورةُ العالمِ الذي فيه يعيشون، وهم ليسوا منه، صورةُ العالمِ الذي نمرُّ فيه وقتًا لنتركَهُ مخلِّينَ فيهِ أكفانًا هي من العالَمِ وإليهِ تعودُ. شعروا بقوةٍ التجاذُبِ بين رغبةٍ تشدُّهم نحوَ السماءِ، ومهمّةٍ تغرسُ اقدامَهُمُ في الارضِ، بينَ شوقِهم الى الوصولِ الى عالمِ النور وبقائهم، في عتمةِ الأرضِ منائر هدايةٍ، وحاملي بشارةَ الخلاصِ، يجسِّدون الحضورَ الفعليَّ تحتِ حجابِ الغيابِ الظاهر.
أمام القبرِ الفارغ، وقد تركهُ الربُّ بجسده، نتأمَّلُ قيمةَ هذا الجسدِ الذي نحيا فيه نحنُ ونُحْييه، فنعرفُ كيفَ نحتَرِمُهُ ونكرِّمُهُ ولا نجعَلُ منه موكرةَ اللعناتِ ومادة الفجورِ؛ نتأمّلُ ، وقد فرغَ القبرُ من جسدِ المسيحِ، مصيرَ أجسادنا التي أُعطيناها، لتكونَ سبيلاً لتمجيدِ الله، لا لتكونَ اداةَ متعةٍ، تُغْرِقُ الانسانَ في وُحُولِ اللذةِ الرخيصةِ، ولا لتكونَ اداةَ استغلالٍ نستعمِلُها في أفلامنا وإعلاناتنا لجذبِ الأعينِ فالانتباهِ، وكأنَّ أجسادَنا أداةٌ بأيدي الشيطانِ، يستخدمُها لبذرِ الشرِّ، بينما أُعطيناها للخيرِ والعطاء.
هذه الأجسادُ التي فيها تقبَّلنا العمادَ، وفيها اشتركنا بوليمَةِ الربِّ، وفيها أحبَبنا وخدمنا وشاركنا الناسَ فرحَهُم وآسينَا وتعزَّينا، أيجوزُ لنا أن نستعمِلَها أداةً للفجورِ وبؤرةً للأرجاس؟.
أَمام القبرِ الفارغ، يقفُ الانسانُ، وقد أمسكت يدُهُ طرفَ المرساةِ المربوطةِ في شاطئِ الأمان، فباتَ مُوقِنًا تمامَ اليقينِ، أنَّه لا بُدَّ سيصلُ الى هذا الشاطئِ، مهما عصفَتْ عليهِ رياحُ العالَمِ وصدمتْ سفينتَهُ امواجُ المصاعِب. باتَ يُدرِكُ أنَّ الجرحَ الذي أصابَ العالمَ، عقلاً وقلبًا وتصرُّفًا ، قد التأمَ، وانَّ التمزُّقَ الذي نشأ في كيانِ الانسان قد انتهى، وانَّ المسيحَ، حجرَ الزاويةِ في بناءِ المصالحةِ بين الله والناسِ، والناسِ والناسِ، والذاتِ والذاتِ، قادرٌ، ووحدَهُ قادِرٌ، على فعلِ الخيرِ الذي يريدُ، وعدمِ فعلِ الشرِّ الذي يكره، وحدهُ يحيا اللقاءَ ولا غربةَ فيه عن سواهُ ولا عنْ ذاتِه وعن اللهِ ، فيه كانَ كل شيءٍ ومعهُ وفيهِ، تمَّ كلُّ شيء.
غير انَّ الطريقَ طويلٌ والحصادَ كثيرٌ، وما القبرُ الفارغُ إلاَّ بابٌ مفتوحٌ على المستقبلِ ، وحافزٌ على الاندفاع في رسالةِ الصلاحِ، يشدُّنا شوقُنا الى ملاقاةِ المسيحِ في مجدِه الأبدي، وفي ذاكرتنا إكليلُ الشوكِ وآثارُ المساميرِ، لئلا ننسى أنَّ طريقَ النورِ تمرُّ بعتمةِ بستانِ الزيتون، وانَّنا سنلقى في العالمِ ضيقًا شديدًا، وسنعذَّبُ لأجلِ اسمِ المسيحِ، وسيحسَبُ من يذبَحُنا، أنَّهُ يقدِّمُ للهِ قربانا. لكنَّ قوَّتَنا ثابتةٌ، ورجاءَنا وطيدٌ، لأنَّ الذي وعدنا حيٌّ هو، ومعهُ لا نُغلَبُ ولا نموت، لأنّه قد غلبَ العالم .